التسامح قيمة عظيمة، وأحد المبادئ الإنسانية، صفة العظماء والأقوياء الذين يتملكون مشاعرهم، ويضبطون أنفسهم في المواقف الصعبة، التي تستوجب التحلي بالصبر والحكمة، فخلق التسامح حوله الإسلام إلى واقع ملموس يتعامل به المسلم في حياته اليومية، بالتغاضي والنسيان عن ماضي مؤلم بكامل إرادته، والتنازل عن حقه فيما يلحقه من الآخرين من إيذاء، تنازله هذا دليل على قوة إيمان، ورغبة صادقة في طيب العيش والمقام في الآخرة، فهمة المتسامح عالية، وهدفه شامخ راقي، ألا وهو رضاء ربه عنه، فالتسامح خلق الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك المصلحين في الأمم عبر التاريخ، لأن التسامح بوابة لتحقيق ما أرسلوا به وما يدعون إليه.
فالتسامح ليس تنازل من ضعف أو خوف وقلة حيلة، أو تنازل عن الحقوق بالذل والمهانة، بل هو نابع من صفاء القلوب، وقوة إرادة وعزيمة صادقة في الانتصار على النفس والذات بكل إيجابية، بعيدا عن السلبيات وما يصاحبها من الغضب والقسوة والعدوانية للغير، ولله در القائل: “إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه”، وفي الحقيقة فالتسامح لغة السعادة، وطوق النجاة من الغرق في طوفان المشاكل والأحقاد والعداوات، فالنفس النقية الصافية هي النفس التي تترفع عن صغائر الأمور وتسمو بها إلى المعالي، ولا يتأتى لها ذلك إلا عندما تكون متسامحة.
والإسلام حث المؤمنين على التحلي والتمسك بالعفو والتسامح، وقراننا الكريم مليء بالكثير من الآيات الدالة على التسامح، وكذلك الهدي النبوي، فالتسامح انواع كثيرة، لكننا بصدد التكلم عن التسامح مع الأهل والأقارب، وفي العرف السائد يقال: (الأقربون أولى بالمعروف)، فأولى الناس بمسامحتك هم أهلك وأقاربك، فالعفو كفيل بفتح الأبواب المغلقة بين الأهل، والمسامحة تجدد الزهور التي ذبلت في العلاقات البشرية بين الأقارب والأهل، فالعفو هو التاج الذي يزين العلاقات بين الأحباب وكأنه الآية الأولى التي قامت عليها البشرية بأكملها، فإن التسامح مع الأقارب والأرحام هو هدي رسولنا عليه وآل بيته الصلاة والسلام، بل هو سلوك ممتد في أنبياء الله بداية من أبونا أدام عليه السلام، قال الله على لسان سيدنا يوسف عليه السلام لما اعتذر له إخوانه عن فعلتهم: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )، ولا يخفى على أحد ما فعله إخوة يوسف به، وفي الحديث المشهور قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا).
إن العائلة هي مثل الشجرة التي لا تمتد أغصانها سوى بالماء، والماء الذي يغذي العائلة هو المسامحة، ومن أجمل ما قيل في العفو عن أفراد العائلة بعضهم عن بعض: “العائلة هي اللفظة التي لا يمكن للإنسان أن يحيا سويا من دونها ولا يمكنه أن يعيش إلا في أحضانها مهما تظاهر بغير ذلك”، لهذا فإن خير ما يفعله الإنسان مع عائلته هو أن يسامحهم ويعفو عنهم ويصفح عن أخطائهم، فالعتاب لا يجر معه سوى الضغائن والأحقاد، المسامحة تشفي الصدور وهي حسنة لفاعلها قبل أن تكون حسنة لغيره، وصاحب الفهم هو من يبادر لمسامحة غيره لأنه يخلص نفسه من أغلال الحقد ويتحرر من براثن الكراهية والانتقام، ففي المسامحة يسمو الإنسان بنفسه ليخالط الصالحين والأنبياء.
التسامح ليس ضعفا ولا انكسارا ولا هزيمة، بل هو قوة ومروءة وسعادة، لا يعرفها إلا المتسامحين، فهم في راحة وسعادة وطمأنينة، يستمتع في كل لحظات حياته، دون ملل أو ضجر.