طهران الرابح الاكبر

بقلم. د. تامر خفاجي

0 40

تظهر الصورة اليوم بوضوح أكبر. بعد شهور من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير الماضى، يتكشف العامل الأساسى الذي بنى عليه الرئيس الروسى حساباته في خوض هذه المغامرة. لم تكن القوة العسكرية الروسية هي العنصر الجوهرى في الحسابات. القوة العسكرية الروسية، وكما بدا واضحا للعيان، ليست قاهرة ولا حتى قادرة بما يكفى لفرض إرادتها. بل هي ليست مجهزة لخوض حربٍ مع جيش حديث، متوسط القدرة والحجم، يتمتع بدعمٍ من القوة الغربية. العامل الرئيسى إذن لم يكن يتعلق بتقدير روسيا لقدراتها (وإن كان تواضع الأداء العسكرى مفاجأة للجميع، بمن فيهم القيادة الروسية)، بل بتصور موسكو لرد فعل الأطراف الأخرى على الغزو. موسكو أقامت حساباتها وخططها على أساس توقعها لموقف متخاذل من جانب القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، زعيمة العالم الغربى. بل هي قدّرت، لسببٍ أو لآخر، أن الشعب الأوكرانى نفسه لن ينخرط في مقاومة فعّالة ومؤثرة لصد الاعتداء الروسى. وهكذا، تصورت موسكو أن في إمكانها القيام بهذه «المناورة/ المغامرة» لتحقيق مكاسب مؤكدة بتكلفة بسيطة، على أساس أن القوى الدولية المناوئة لن تستجمع الإرادة الكافية لمواجهة هذا الاعتداء، وتدفيع المعتدى ثمنا باهظا، ورده على أعقابه.
فى هذا التصور ليست روسيا ببعيدة عن المنطق الذي يُحرك «الفتوة» في الحارة المصرية القديمة. لا يستمد الفتوة سطوته من خوض المعارك اليومية، وتأديب من يتحدونه على نحو مستمر. لا يبنى هيبته على أساس الحسابات الواقعية لقوته البدنية في مواجهة الخصوم. الحقيقة أن القوة الضاربة للفتوة ليست في عضلاته، بقدر ما تكمن في يقينه بتخاذل الآخرين عن مواجهته، وعجزهم عن استجماع الإرادة اللازمة لتحديه، وإيثارهم السلامة في أي نزاعٍ يكون هو طرفا فيه.
في هذا السياق، يمكننا فهم مقولة «هنرى كيسنجر»، البارعة والبليغة، والتى وردت في رسالته التي قدمها لنيل الدكتوراة: «متى كان السلام- الذي يُفهم بوصفه تجنبا للحرب- هو الهدف الرئيسى لقوةٍ أو لمجموعةٍ من القوى، فإن النظام الدولى يصير تحت رحمة العضو الأشد قسوةً في المجتمع الدولى». والمعنى أن تجنب الحرب إن صار هدفا أعلى للقوى الدولية (كما حدث مثلا في وقت صعود هتلر والنازى)، فإن هذا من شأنه إغراء «فتوات العالم» باغتنام الفرصة، واضعين في الاعتبار أن الآخرين سوف يؤثرون السلامة في كل الأحوال، وأنهم سيكونون مستعدين لتقديم تنازلاتٍ تجنبهم خوض النزاع لتحقيق هدفهم الأعلى بتجنب الحرب مهما كان الثمن.
تكررت هذه العبارة البارعة في الخطاب الرسمى للجنة التي منحت كيسنجر جائزة نوبل للسلام في عام 1973، تقديرا لجهوده في إنهاء حرب فيتنام. غير أننى استمعتُ إليها مجددا منذ يومين على لسان «جون شيبمان»، الخبير الاستراتيجى المخضرم، ورئيس المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية. جاءت الكلمات في كلمته الافتتاحية للنسخة الثامنة عشرة من حوار المنامة، وهو منتدى استراتيجى يُعقد في العاصمة البحرينية سنويا منذ عام 2004، ويُعنى في الأساس بالقضايا الأمنية والاستراتيجية، خاصة تلك التي تخص الشرق الأوسط، ولا سيما منطقة الخليج.
إيران هي غائب حاضر في هذا المؤتمر. لا يوجد مشاركون من إيران، لكن المسألة الإيرانية حاضرة بقوة على أجندة الحوار. في هذا العام اكتسبت المناقشة حول إيران بعدا جديدا. تحدثت رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» في الجلسة الافتتاحية عن إدراك أوروبى متزايد لما يعنيه أن تكون بلدٌ ما عرضةً لضربات صاروخية على منشآتها الحيوية ومراكزها السكانية. أوروبا التي ظلت بعيدة عن النزاعات الكبرى لعقود، وجدت نفسها مجددا في مواجهة خصمٍ يتحدى النظام المستقر والقواعد الراسخة. كانت المسؤولة الأوروبية الرفيعة تُشير هنا إلى ما تُعانيه دولٌ عربية في الخليج من موقف مُشابه مع «الفتوة الإيرانى» الذي يُمارس ذات السياسة في المنطقة، مُستندا في الأساس إلى إدراكه بأن الثمن الذي يتكبده جراء زعزعة الأمن وتهديد الآخرين لن يكون باهظا بما يكفى. وزير الخارجية البريطانى أتى في مداخلته على ذات المعنى، مستذكرا الصواريخ التي أُطلقت على أبوظبى مطلع هذا العام، وكذا الضربات التي وجهتها إيران إلى المنشآت النفطية السعودية في 2019.
وزير خارجية اليونان لخص المسألة في الجلسة الأخيرة من الحوار بالأمس بالإشارة إلى أن بلاده لا تحمل أي شىء ضد روسيا، غير أنها عارضت الغزو لأنه لو حدث ونجحت هذه العملية في احتلال بلدٍ أو تغيير الحدود الدولية فإن هذا المنطق سوف يسود، ولن يكون هناك ما يمنع تكرار الأمر على يد قوى أخرى في المستقبل ترى في نفسها القدرة على تحدى القواعد، وتعرف مسبقا أن العالم ليست لديه الإرادة الكافية للمواجهة.
على أن خطا آخر يربط بين التهديدين، الروسى لأوروبا والإيرانى للخليج والمشرق العربى. إنها تلك الطائرات المسيرة التي أمدت بها طهران القوات الروسية، وأمطرت بها الأخيرة السماوات الأوكرانية. هنا يظهر عمق التحالف بين هاتين القوتين، اللتين كشفت الأحداث عن تشابه كبير بين رؤيتهما لأنفسهما ودورهما في العالم. «بريت ماجورك»، المسؤول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومى الأمريكى، قال في إحدى جلسات حوار المنامة إن الأمر يتعدى مجرد إمداد طهران لموسكو ببعض المسيرات. ثمة تحالف عسكرى وثيق ومتنامٍ بين البلدين، خاصة في مجال التسليح.
يكشف هذا التحالف، إلى حدٍ بعيد، عن قدر من «الإفلاس الروسى». كانت موسكو تتوقع أن تأتى هذه المساعدة المهمة من جانب قوى ترى في الحرب الروسية على أوكرانيا فُرصة لتحدى النظام العالمى القائم على الهيمنة الأمريكية. الصين كانت حليفا محتملا في هذه المغامرة. على أن الصين، وإلى حد بعيد، خيبت آمال موسكو. في المحصلة، لم تقدم بكين أي مساعدة معتبرة لروسيا تُمكنها من تغيير المعادلة العسكرية أو السياسية. وبرغم مساندة دبلوماسية ضمنية، خاصة في بداية الغزو، إلا أن محصلة موقف بكين هي عدم مساندة العملية الروسية. ولهذا لم تجد موسكو، وعلى خلفية التدهور المتزايد في موقفها العسكرى، حلفاء حقيقيين لها في هذه المغامرة سوى في ملالى طهران. وليس الأمر محض مصادفة.
النظام الإيرانى، مثله مثل الروسى، يتخذ من التصدى للهيمنة الغربية شعارا ومنهجا للعمل، في الداخل والخارج. النظام الإيرانى، مثله مثل الروسى، ينظر إلى محيطه المباشر، فيرى فرصا يُمكن اقتناصها بالمغامرات العسكرية حينا، وبالتخريب والابتزاز وزعزعة الاستقرار حينا آخر. موسكو تتطلع إلى أوروبا، فترى عملاقا اقتصاديا وقزما عسكريا. إيران تمد بصرها عبر ضفة الخليج، فترى ثرواتٍ هائلة، مع انكشاف استراتيجى مُفزع. بدرجاتٍ متفاوتة بالطبع، تعتمد المنطقتان- أوروبا والخليج- على الولايات المتحدة كضامن أعلى لأمنهما. الالتزام الأمريكى نحو أمن أوروبا وأمن الخليج جوهرى وحاسم في استقرار المنطقتين. عندما تعرض هذا الالتزام للاهتزاز في عهد ترامب، اكتسب «بوتين» جرأة مُضاعفة في مواجهة الأوروبيين، وكذلك شعرت طهران. لبوتين حلفاء، بل وعملاء، داخل أوروبا.. وهو نفس ما يفعله النظام الإيرانى بتبنى جماعات عسكرية وميليشيات عميلة في المشرق العربى واليمن.
إن الخط الواصل بين طهران وموسكو يكشف عن منطق واحد في النظر للسياسة العالمية وقواعدها. من حسن الحظ أن هذا المنطق يستند، وكما علمنا درس التاريخ غير مرة، على حسابات قاصرة.. قد تقود لنجاحات مرحلية هنا وهناك، على أن هذه النجاحات ذاتها هي ما تغرى الطرف المعتدى بالمزيد من المغامرات غير المحسوبة، ثم بالانعزال عن الواقع والقفز عليه بتجاوز القدرات والإمكانيات، ومن ثمّ السقوط في الهاوية!.
وللحديث بقيه مادام في العمر بقيه …. وغدا افضل باذن الله

بنك مصر مقالات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.