ماذا نغيِّر حتى نتغيَّر

0 50

كل الناس يحفظون قوله تعالى (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد 11]، ولكن أشكل عليهم مفهوم ما بالنفس هذا الذي اعتبره مالك بن نبي رحمه الله محورا هاما عندما قال “غيّر نفسك تغيّر التاريخ” استنادا لهذا القانون القرآني [شروط النههضة]، ومن ثمّ راحوا يتساءلون: من أين نبدأ عملية التغيير والإصلاح؟ لأن مفهوم القوم في قوله تعالى –ما بقوم- يشمل الفرد والجماعة.
منهم من يرى أن تغيير السلطة هو الذي يُحدث التغيير؛ لأن السلطة هي الجهاز التنفيذي الذي يمتلك القوة التي تفرض بها ما تريد، ومن ثمّ فكل من يريد التغيير عليه بالنضال من أجل الوصول إلى السلطة.
ومنهم من يرى تغيير عقليات أفراد المجتمع هو الأساس؛ لأن المجتمع هو الذي له القدرة على فرض وتعميم الثقافة المطلوبة، من أعراف وتقاليد ودين واحترام القانون والحفاظ على القيم… وعليه لا بدّ من تربية المجتمع عبر الخطاب الإعلامي والتربوي والوعظي… إلخ.
ومنهم من لا يرى في هؤلاء وأولئك شيئا له اعتبار؛ لأن مركز القرار اليوم بيد الدول المتطورة والنافذة، إذ لا تستطيع الشعوب والأنظمة التي تحكمها، أن تفعل شيئا إلا بإذن من جهة من تلك الجهات، وهذا التوجُّه ينتظر معجزة ربانية تنقذ الأمة مما هي فيه، مثلما قال قوم من قبل “دخل الاستعمار قضاءً وقدرا ويخرج قضاءً وقدرا”.
والقاسم المشترك بين هذه الفئات الثلاث، هو العجز عن الوصول إلى تشخيص حقيقي يضع كل المجتمع أمام مسؤولياته تجاه الواقع الذي يعيش فيه ويعاني منه ومن ويلاته.
المجتمع كلّه يعرف أنه يعيش أزمة، ولكنه عاجز عن معرفة ما يُخرجه منها، والأدهى أن البعض زرع في نفسه موقفا لم يمكِّنه من الوصول إلى ما آمن به، ولكنه غير مستعدّ لمراجعة هذا الموقف الذي زرعه في نفسه، رغم النكسات المتتالية التي حصدها؛ فالذي يعتقد أن الوصول إلى السلطة هو الذي يجنِّب المجتمع المآسي التي يعيش فيها، لا يزال يعتقد ذلك رغم أنه جرَّب المعارضة السياسية والموالاة والمقاطعة، وفشل في مناسبات كثيرة، وهو غير مستعد لمراجعة موقفه ويصر إصرارا عجيبا على موقفه الأول الذي يدير به مواقفه وآراءه… وقل مثل ذلك فيمن اعتمد على تربية الشعب وتأهيله لتحقيق نهضته، فمنذ قرنين من الخبرة الميدانية في الموضوع، لم يكلّف هذا التيار نفسه مراجعة آرائه ومواقفه، لينقدها ويعدّلها بما يقتضيح الحال والحاجة.
أما الذين ينتظرون المعجزات فلا حديث عنهم؛ لأن المعجزات ذهبت مع الأنبياء والمرسلين. ومع ذلك لا بد من أخذ المعادلة الدولية في الاعتبار؛ لأن العالم محكومٌ بمنطق المصالح، وكذلك عالم الاتصال الذي هو الآخر له سلطانه على الشعوب وعلى النظم السياسية، إذ لم يعد من السهل الحسم في المعادلة الوطنية بالاكتفاء بالتركيز على النظام السياسي والشعب فحسب.
أين المشكلة إذن؟
المشكلة في تقديري هي أن الجميع متعلقون بالجزء الأضعف من المسألة؛ مكتفين بأوهام بنوا عليها تصوراتهم، متمثلة في الجزء من الحقيقة في المسألة وليست كلها؛ فالسلطة حقيقة تمثل القوة الفاعلة، ولكن هل القوة هي التي تُحدث التغيير؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يحصل ذلك؟ وقل مثل ذلك في الرأي القائل بأن المجتمع هو من يملك جذور التغيير وهو حقيقة أيضا، ولكن هل المجتمع يمثل وحده الجهة القادرة على تحقيق التغيير؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يحصل وبأي آليات؟
وأيضا المعادلة الدولية، هل حقيقة أن مجتمعا يريد التغيير عليه أن ينتظر القرار الدولي ليُنصفه ويحقق له ما يريد؟ وإن كان الواقع أن تأثير ذلك على الأوطان حقيقة ماثلة.

وللخروج من هذه الدوامة التي لا تزال تدوِّخ العاملين الميدانيين والمهتمّين بالشأن العامّ، لا بد من الانطلاق من الحقائق وليس من الأوهام التي نعتقدها حقائق، وذلك بالانتقال إلى المسكوت عنه في نقاشاتنا؛ لأن ما علمناه من حقائق قد جرَّبناه وانتهينا منه، فلننتقل ونجرِّب ما جهلناه من المعادلة، وكما يقول الأستاذ جودت سعيد تعليقا على الآية التي صدرنا بها هذا الموضوع “لا بد من معرفة ما ينبغي أن نغيِّره، من الأوهام، وما ينبغي أن نثبِّته من الحقائق” [حتى يغيروا ما بأنفسهم].
وعندما نتكلم عن مجتمع، فنحن نتكلم عن مجموعات بشرية تجمع بينها مصالح قد تعاقدت على تحقيقها، وعن مؤسسات قائمة لرعاية تلك المصالح الجامعة وفق ما تعاقعدت عليه، وعن برامج سياسية واجتماعية وثقافية… وعن نخب حاضرة وقائمة على هذا الشأن، بعضها في السلطة وبعضها في المعارضة وبعضها في مؤسسات المجتمع المدني.
إذن نحن أمام أربع جهات، وهي:
الشعب أو الشارع كما يُعبَّر عنه في الخطاب الإعلامي.
النخبة أو الصفوة المعوَّل عليها في قيادة الشعب أو الشارع وخدمته.
البرامج السياسية والاجتماعية والثقافية.
السلطة أو المؤسسات.
والمفترض في هذه الجهات الأربع أنها لا تشتغل بمعزل عن بعضها البعض؛ بل المفترض في نشاطاتها كلها أنها متناغمة فيما بينها.
الشعب والشارع موجودٌ، كان ولا يزال كما خلقه الله، يقدِّر مصالحه ويعرفها جيدا ويحققها بالمتاح له من الوسائل، وفق الثقافة السائدة فيه، يحقِّقها بالقانون عندما يجد القياداتِ الراشدة والمؤسسات المنضبطة، وعندما يفقد ذلك يلجأ إلى العُرف والوسائط والمعارف وبالتنازل عن بعض ما يريد لتحقيق بعضه الآخر، وهكذا في إطار منظم في ذهنه… وقد عبَّر عن هذه الفكرة صحفيٌّ كان مراسلا لـ”أندبندنت” في بيروت بقوله “بيوت أهل بيروت جميلة نظيفة أما شوارعهم فوسخة؛ لأن بيوتهم يمتلكونها أما شوارعهم فلا يشعرون بأنهم يمتلكونها”، ولا يتحول الشعب إلى “غاشي” كما وصفه بعض السياسيين، إلا عندما يراد له ذلك عن طريق التضليل السياسي والإعلامي توظيفا للسذاجة الشعبية، ونلمس ذلك في السلوك العفوي عند الشاب الجزائري؛ ففي حياته العامة غير المنتظمة تجده يخالط البنات من غير ضابط ولا ناظم، ولكن عندما يقرر الزواج فإنه يعود إلى العُرف والثقافة الناظمة، وما تقتضيه الفطرة بحثا عن المرأة التي تناسبه وليست المرأة التي حققت له المتعة في يوم من الأيام.
والشعب أو الشارع قد يلاحَظ عليه التسيُّب والتشهي وغير ذلك من الانحرافات الغريزية بصورها المتنوعة، ولكنه عبارة عن محرك مفكك كما وصفه أحد المربين من أمريكا اللاتينية، لا يفقد صلاحيته، وكذلك قطعه مترامية الأطراف لا تفقد وظيفتها ولكنها لا تسترجعها إلا عندما توضع في مكانها من المحرِّك… وكذلك الشعب وكل الشعوب مللحديث بقيه مادام في العمر بقيه ….وغدا أفضل باذن الله .

السلطة حقيقة تمثل القوة الفاعلة، ولكن هل القوة هي التي تُحدث التغيير؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يحصل ذلك؟ وقل مثل ذلك في الرأي القائل بأن المجتمع هو من يملك جذور التغيير وهو حقيقة أيضا، ولكن هل المجتمع يمثل وحده الجهة القادرة على تحقيق التغيير؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يحصل وبأي آليات؟

والذي يركِّب هذا المحرِّك هو النخبة؛ لأنها هي المهندس المؤهَّل لتركيب قطع الغيار ووضعها في مكانها، وذلك بتأطير الشعب وتوظيفه فيما يخدمه، وليس بمجرد استغلاله كوعاء انتخابي وكفى؛ لأن الشعوب لم تُخلق لتقود نفسها، وإنما هي دائما في حاجة إلى من ينظمها ويؤطّرها ويقودها، سواء في إطار السلطة أو في إطار المعارضة؛ لأن النخبة سواء كانت هنا أو هناك فإنها خادمة للشعب وليس لاستغلاله والتباهي بفضائله والتلاعب به.

وخدمة الشعب لن تكون إلا ببرامج سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وكل مناضل يتصدر المشهد النضالي عامة والمشهد السياسي خاصة، لا بد له من برنامج إصلاحي، وذلك حسب القطاع الذي ينشط فيه، فالسياسي من أولويات النضال عنده الوصول إلى السلطة، وذلك يحتاج إلى مشروع شامل، والذي اختار النضال في الجانب الحقوقي المطلبي النقابي له برنامجه الخاص بالقطاع الذي اختاره، والذي اختار الاصلاح العامّ عبر النضال الثقافي والتربوي والتوعوي له برنامجه… ومن ثم ليس هناك نضال بدون برنامج يستجيب لحاجات الشارع المتنوعة، فإذا كانت هذه النخبة في السلطة فهي الأقدر على إنجاز المطلوب شعبيا وإذا كانت خارج السلطة فهي الأقدر على الضغط على السلطة ببرامجها القوية؛ لأن البرنامج القوي يفرض نفسه ويغري الطَّمُوح بسرقته، فيكون المعارض مثلا قد حقّق بعض ما يريد إن كان حقا يريد خدمة الشعب، أما إذا كان همه الوصول إلى السلطة فلن يكون إلا مستبدًّا كغيره ممن يلعنهم ليلا ونهارا.

وأخيرا المجال الرابع والأخير وهو السلطة.. ألا ترون معي أنها هي الأقل أهمية في حلقات عملية التغيير، وذلك ليس لأنها غير مهمة في ذاتها وإنما لأنها ليست هي التي تُحدث التغيير، لأن السلطة التي لا تكون فيها نخبٌ ناضجة لا تُحدث تغييرا.. السلطة التي لا تمتلك برامج إصلاح ونهضة لا تُحدث تغييرا.. السلطة التي لا تحترم الشعب وتقدّره حق قدره لا تُحقق تغييرا. صحيح أن السلطة تمتلك ما لا يمتلك غيرها من القوة والمال والنفوذ، ولكن كل ذلك لا تحقق به شيئا إلا الاستبداد الذي تعاني منه كل الشعوب الفاقدة للنخب الراشدة والمتجاهلة لأهمية البرامج وتقدير الشعوب… وللحديث بقيه مادام في العمر بقية…… وغدا افضل باذن الله .

بنك مصر مقالات
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.